الاستعارات التي نحيا بها

تعرفون هذا العنوان الشهير، أستعيره من جورج لايكوف، لأنه يضعنا في صلب الموضوع مباشرة: اننا لا نعبر عن أفكارنا فحسب حين نتكلم و نبني الاستعارات، بل نحيا... فعلى أي نحو نحيا؟

سأحاول الاجابة بالاستناد الى أمثلة مختلفة تنتمي الى حقول متباينة.

المثال الأول الذي سأنطلق منه ينتمي إلى لهجتنا الدارجة/ كلامنا اليومي المليء بالإيحاءات، وهو عبارة كثيرة الاستعمال، ومنتشرة بين فئات مختلفة، و أعني قولنا " فلان يخدّم في مخّه/ ( مخّو)" وهي عبارة تستعمل عادة لانجاز معنى الذم عموما و تعليق صفة المكر بمن ينعت بـ" تخديم المخ" و هي تستعمل في سياقات مختلفة فنحن نقول مثلا: " فلان خدّم مخه " أو " فلان يخدّم علينا في مخه".... و قد يستعمل فعل التّخديم في صيغة الأمر " خدّم مخك..." فيتغير المعنى .

" خدّم" في لهجتنا التونسية تعني العمل و ما قد يتصل به من حركة و نشاط، أما المخ فتعني الدماغ في سياق العبارة المذكورة. وعليه فأن " تخديم المخ" يعني " النشاط الذهني" ، و الذي يعني حتما التفكير

( تخديم المخ"═ نشاط الدماغ ═ التفكير). و لعل أبسط دليل على هذه المعادلة هو المعنى الذي تحققه صيغة الأمر، فنحن حين نقول لشخص ما "خدّم مخك" فإننا نعني " فكر".

و إذا كان ذلك كذلك ، فان التفكير في دارجتنا التونسية يرادف المكر، بما أن كل " تخديم مخ" أي كل تفكير، هو مكر، و كل شخص" يخّدم في مخّه"/ يفكر هو شخص ماكر بالضرورة.

إن هذه العبارة التي نستعملها بشكل متواتر و في سياقات كثيرة و لعلنا وحدنا من يستعملها، تكشف إذن أننا نعادي التفكير و نعتبره مكرا و شرا مطلقا. الطريف أن استعمال هذه العبارة ليس قديما في لهجتنا بل ظهر على ما أعتقد مع صيغ و عبارات أخرى فيها إلحاح كبير على تعليق صفة عدم القدرة على الفهم بالمتقبل، ففي حوارات كثيرة تتواتر عبارات من قبيل: " فهمتها كيفاش" "عرفتها ". ان تكرار هذه العبارات يخفي خوف المخاطب من أن لا يفهم و هو خوف مرضي ... و يثير الكثير من الأسئلة.

ان الكلمة – كما أشار الى ذلك ميخائيل باختين في كتاب الماركسية و فلسفة اللغة- قادرة على اختزان أكثر المراحل الانتقالية ضآلة، أي تلك المراحل التي قد لا تتيح أدوات أخرى رصدها و تمثلها، هذا يعني أن الكلمة ( العبارة التي انطلقنا منها) ليست مجرد امكان من بين إمكانات أخرى متعددة لمنشئ الخطاب أن يستعملها أو أن يستعمل غيرها لسبب إبلاغي أو جمالي و إنما هي علامة تقتضيها واقعة تاريخية تريد أن تفصح عن نفسها. فليس الحديث فرديا – كما أشار إلى ذلك باختين أيضا ـ و ليس متغيرا بلاحدود كما يقول، فالحديث البشري نتاج لتفاعل اللغة والسياق المرتبط بالتاريخ .

إن كلامنا ( دارجتنا) يشير بشكل واضح ( رغم كل الشعارات التي ترفع بالفصحى) إلى الخطر المحدق: إننا نعادي التفكير و نصبح أكثر انغلاقا و تطرفا

المثال الثاني الذي يمكن أن نعول عليه ينتمي هو أيضا إلى الكلام/ إلى دارجتنا و يتصل بالأمثال الشعبية التي يفترض أنها تكثف تجاربنا و تصوراتنا و معاييرنا الأخلاقية وتعكس أحوالنا و طرائق تفكيرنا.... ولهذا السبب كان الاهتمام بالأمثلة قديما( يقول ابن عبدربه في العقد الفريد متحدثا عن المثل: إنه أبقى من الشعر وأشرق من الخطابة.) بل ان توجه الكثيرين الى جمع الأمثال (الأمثال للمفضل الضبي ومجمع الأمثال للميداني ....). يعكس الوعي بأهمية هذا النوع من الخطابات .

و الامثلة الشعبية التي سأتأملها في هذه الورقة شائعة و يعرفها الجميع ـ لا أعتقد أن نقلها إلى الفصحى ضروري ـ فلا شك أنها مفهومة بالنسبة لكم.

1- "شد في ذيل الكلب لين يقطع بيك الواد"

2- "شد امشومك لا إيجيك أشوم منه (منو)"

3– "اللي تلقاه راكب على فركة قل له مبروك الحصان"

إن هذه الأمثلة ـ واسعة الانتشارـ تشرع لقيم سلبية خطيرة، و تقدمها بصفتها نماذج سلوكية يقتدى بها. ان هذه الأمثلة تدعو الى الانتهازية و الوصولية و النفاق و الخنوع بشكل ماكر.

لنتأمل المثل الأول: "شد في ذيل الكلب لين يقطع بيك الواد". ان نص هذا المثل نص مخاتل فهو يوحي بأن دعوته للانتهازية و الوصولية، أمر تقتضيه الوضعية التي يعيشها المتقبل،( قطعان الواد و ما قد توحي به من مخاطر الغرق/ الموت) و عليه فإنها دعوة يقتضيها المنطق السليم . يقترح هذا المثل مشهدا، حيث نخيّر بين أمرين: أما الغرق (في الواد) أو قبول الانتهازية والوصولية (شد في ذيل الكلب). فلماذا لم يقترح علينا أن نبحث عن جسر؟ أو أن نصنع جسرا؟ ... أو على الأقل أن ننتظر حتى يخف السيل و يجف الواد...؟ لماذا يسعى الى ايهامنا بان امكانية العبور الى الضفة الى الاخرى مستحيلة ان نحن رفضنا الانتهازية الرخيصة التي يقترحها شرطا للخلاص و النجاة؟؟؟؟

المثال الثاني أكثر خطورة من الأول، ("شد امشومك لا إيجيك أشوم منه (منو)"). انه يستند إلى تصور سلفي (ليس في الإمكان أفضل مما كان) ليحرض بنبرة ترهيبية على الاستسلام للواقع السيئ وتقبل الأوضاع القائمة مهما كانت رداءتها و بؤسها. انه يعلن بنبرة واثقة أن كل آت سيكون أشد بؤسا و أكثر رداءة ، انه تدرج من السيئ إلى الاسوء، لأننا نبتعد شيئا فشيئا عن لحظة التأسيس أو لحظة الولادة الرمزية، و بالتالي فلا داعي لمقاومة هذا الانهيار و التراجع لأنه أمر الاهي لا قدرة للبشر على رده.

إن هذا المثل، و بالإضافة إلى ما تقدم يكشف أيضا خوفنا المفرط من التغيير، فكل تغير ، حسب مثلنا، لا يمكن أن يكون إلا نحو الاسوء.

أما بالنسبة للمثل الثالث فيعتبر دعوة فجة للنفاق و المداهنة......

ان توفر ثقافتنا الشعبية على أمثلة من هذا النوع أمر يثير الكثير من الاسئلة، فما بالك برواجها............................؟

انها اشارة واضحة إلى الخطر المحدق: إننا نعاني أزمات أخلاقية و نصبح أكثر انتهازية و خنوعا

المثال الثالث يتعلق بنوع اخر من الخطابات و بفضاء اخر لتبادل الاراء و الحوار و هو المدونات والتعليقات التي ترافق النصوص(مسألة أحاول متابعتها الان...)

(.... يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق