الأزمنة الحديثة و ظهور الخطاب البياني



1ـ حول الأزمنة الحديثة

1 -1 واقع الحداثة

ليس من غايات هذا البحث استقصاء التعريفات الكثيرة المقترحة لـ"الحداثة"، وعـرضها ومناقشاتها. فقد استعمل مصطلح " الحداثة " وشبكة المصطلحات المتعلّقة به ("التحــديث"، " الحـديث"، "المعاصر"، "ما بـعد الحداثة") ويستــعمل بأوجه مختلفة ومـتنوعة ومـتناقضة أحيانا1. ولـيس ذلك عـيبا في الاسـتعمال أو المستعملين، بل« هو نتيجة اختلاط عـضوي عــريق وشـائع يـضرب أطنابه في معظم المعاجم الأوروبية التي كـانت ـ وما تزال ـ الحاضنة اللغوية لهذه التوصيفات»2. ومن الملاحظ أن دلالات هذه المصطلحات، لا تطرح إشكاليات التحقيب فقط، فقد حولها الاسـتعمال ـ وبـقصد واضح في اغـلب الأحيان ـ إلى معايير قـيمة وكـيفية.

ومن الأنسب، إذن، أن نـترك التعريفات جانبا لنلتفت إلى تأمّل الواقع الذي اقترحت كلمة "الحداثة" لتوصيفه:

بعد اكتشاف أمريكا والطريق البحري إلى الهند، في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، وبدافع من هذا الاكتشاف، ونتيجة له، بلغت قوى الإنتاج في أوروبا ( العنصر البشري والتقنيات التي يؤثر بها في الطبيعة وما يملكه من مـعرفة ومـهارات خاصة وتجارب و تقاليد مهنية ) درجة مـن التطور أصبح مـعها استمرار عـلاقات الإنتاج ( تقسيم العمل وشروط التبادل وتوزيع المنتجات...) الإقطاعية المهيمنة عامل جذب إلى الوراء وحاجزا أمام التطور. وقد أدى التناقض بين قـوى الإنتاج وعـلاقات الإنتاج إلى إبدال شامل كانت له إرهاصاته الواضحة والبـارزة، مثل ظهور حركات الإصلاح الــدينية (البروتستانتية ) التي كانت مبادئ القس"مارتن لوثر"( ت 1546 ) فاتحتها. فقد انتقد مفاسد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وندد ببيع البابا صكوك الغفران لجمع المال، وهوـ حسبه ـ السبب في تراكم ثروة الكنيسة المادية وفقرها الروحي. كما أعلن رفضه لمفهوم الحساب والعقاب السائد. وبعد قرن ونصف من الحروب الدينية، تقلصت سلطة الكنيسة التي كـانت تُـخضع الـعلم والفن والأخلاق لسيطرتها، وتمارس هيمنة سياسية فعلية على كامل أوروبا وتراجع تأثيرها في الحياة العامة.

كما كانت الثورة الإنجليزية (1640-1660)3 ثم الثورة الفرنسية (1789)4 تعبيرات اجتماعية وسياسية عن ذلك التناقض الذي كان يحتاج إلى حل. وهي المـهمة التي تـكفّلت بها الـبرجوازية فقد « وضعت حدا لكافة علاقات الإنتاج الإقطاعية والبطر كية والرعوية، وقضت دون هوادة على الروابط الإقطاعية المزركشة، التي كانت تشد الإنسان إلى سادته الطبيعيين»5. فتراجع الدور الأيديولوجي الذي كان يلعبه الدين لصالح الشأن السياسي، وانهارت المملكة لتحل محلها الجمهورية، وقضي على المراتب الاجتماعية المتوارثة، ليتحول مقدار الثروة إلى محدد رئيس للمرتبة الاجتماعية. فأصبح التطور المستمر، كٌما ونوعا، بدافع المزاحمة وبغرض الربح، قاعدة الحقبة الجديدة (الرأسمالية).

والتطور المستمر هو حصيلة المراقبة والمراجعة المستمرة لأساليب وكيفيّات الإنتاج، بغرض خفض تكلفة السلع وتطوير نوعيتها، من أجل تحقيق أعلى نسب من الربح. وليس النقد المستمر، الذي أصبح يشكل مكونا من مكونات النظر إلى الذات والمنجز في الفكر الغربي، منذ عصر الأنوار، إلا الوجه الآخر أو المعادل الثقافي، للمراقبة المستمرة للسلع في عملية الإنتاج المادي.

1 - 2 نشوء مفهوم الحداثة

« لقد بدأ تعبير الحديث (moderne)مرادفا ـ بدرجة تزيد أو تنقص ـ لتعبير"الآن " أواخر القرن السادس عشر... وفي القرن التاسع عشر (بعد أن رسٌخت البرجوازية أقدامها) أصبح التعبير يأخذ مسحة ما هو مرغوب و تقدٌمي إلى حد بعيد»6 ويعني تلك الإرادة الاستفزازية المتمثلة في حب العصر والاحتفال به، في تنظيرات جيرار دي نرفال (G. De Nerval) و شارل بودلير (CH. Beaudlaire)7.

وهكذا انتقل تعبير الحديث من الدلالة على حقبة زمنية(الحديث مقابل القديم) إلى حكم قيمة، حيث أصبحت صفة "الحديث" تعني منجز تلك الحقبة أو ما تمّ تأسيسه على أنقاض الحقبة البائدة.

هذا التحوّل كان نتيجة تقدير مبالغ فيه لما أنجزته البرجوازية، عندما كانت طبقة اجتماعية ثورية، تقود المعركة الاقتصادية والسياسية والثقافية ضد الإقطاع. وهو تقدير تكرّس في الثقافة الغربية واستمر حتى ستينيات القرن الماضي، لينطلق العمل بآليات الحداثة ذاتها، ولكن ضدها هذه المرة ـ كما يبدو ـ ومن اجل تفكيكها وقهر مركزيتها، وتحت تأثير مصطلح جديد:"ما بعد الحداثة (Post moderne).

لكن ما يبدو ليس هو الحقيقة، فالمشروع "الما بعد حداثي"(post moderniste ) في عمقه مشروع "لا ـ أدري" اقتضته الحاجة لإمتصاص أزمات الحداثة.

1-3 نشوء ظاهرة النصوص البيانية

يشكل مبدأ المزاحمة الحرة أساس المجتمع الرأسمالي، هذا المجتمع الجديد الذي أدت الثورة البرجوازية إلى ظهوره. وقد ترتب عن هذا المبدأ تبدل نمط الاستغلال، حيث أصبح يقوم على القسر الاقتصادي، وغلّف طغيان السلطة السياسية، بالديمقراطية البرجوازية وهي في جوهرها آلية تعويض: فقد مُنحت الطبقات المستغلة الحق في "التعبير" عوضا عن حقها في الخيرات المادية والثروة . وبعد أن كان هذا الحق حكرا على الملك أو النبلاء ومن يمثلهم في المجتمع الإقطاعي، أوهمت البرجوازية بأنها قد وزعته بشكل عادل بين جميع الفئات والشرائح الاجتماعية. وقد ساهم تطور قوى الإنتاج وخاصة ما يتعلق بمؤسسات ووسائط ووسائل التواصل في ترسيخ هذا الوهم. من هنا كانت قاعدة "حق الجميع في الحضور" أساس مناخ ملائم لظهور الأحزاب السياسية والحركات والتوجّهات الأدبية والفنية. والوسيلة المثلى لإعلان هذا الحضور هي إصدار بيان، ذلك أن إصدار بيان في حد ذاته حدث يوفر قدرا من الإحساس بممارسة السلطة (حدث تعويضي).

2- النصوص البيانية

2 ـ1 الرومانسية* ونصوصها البيانية ( الرومانسية الفرنسية نموذجا):

2 -1-1 كانت فاتحة القرن التاسع عشر، التي شغلت عقوده الثلاثة الأولى، مشهد صراع عنيف بين الجمالية الكلاسيكية والجمالية الرومانسية. أس الأولى المبادئ والأساليب الإغريقية والرومانية، و القواعد النقدية التي وضعها أرسطو، وما إنضاف إليها بمحاولات إحيائها إبان عصر النهضة*. وأسُّ الثانية « النقد الموجه نحو غزو المؤسسات الضابطة للمجتمع وعلائقه وإنتاجه واعتقاده»8**.

ولكي يفهم خروج الرومانسيين عن القواعد الأدبية والجمالية للذوق الكلاسيكي أو المؤسسة الكلاسيكية فهما مناسبا، و لكي لا يعتبر مجرد عمل شكلي، فارغ من المعنى، ولكي لا يفسّر بمحدودية الموهبة أو عدم القدرة على إنتاج أعمال ملتزمة بالمعايير الكلاسيكية، "الكاملة والمطلقة"، كان لابد من نصوص موازية للعمل الإبداعي، وظيفتها توضيح معالم المشروع الرومانسي والتأكيد على جدته وفرادته وعمقه التـأسيسي، من ناحية، وإبراز تهافت أطروحات الكلاسيكيين، وعدم ملاءمتها " لروح العصر"، من ناحية ثانية.

بهذا تحقق طابع النصوص البيانية السجالي والتعليمي في نفس الوقت. و بهذا يفسّر توقها إلى التداول وطبيعتها النفعية وعلاقتها الإلزامية بمرسليها.

وتعتبر المقدمات التي وضعها "فكتور هيجو"((V. Hugo الشاعر والناثر والمؤلف المسرحي، وبعض أعماله، أهم سلسلة نصوص بيانية حول الرومانسية الفرنسية.

2-1-2 مقدمات" هيجو"

أرفق هيجو أشعاره الموسومة بـ"الغنائيات" في الطبعة الاصلية (Odes)أو "غنائيات وموشحات" (Odes et ballades) في الطبعات الموالية بمقدمات مختلفة، كانت تعتبر خطوات متتالية في التنظير للرومانسية: فلقد أكدت مقدمة طبعة1822 ضرورة التوافق بين عمق الكائن الفرد، والقفزة الفجائيةsoubresaut)) النوعية، التي يقوم بها المجتمع. أما مقدمة سنة1824 فقد خصصها للدفاع عن حقوق الخطاب الشعري اللامحدودة والتي لا يمحوها الزمن، إذ لا وجود ـ حسب هيجو ـ لمناطق ممنوعة أو مواضيع محرمة على الشعر. وطرحت مقدمة 1826 إشكالية وظيفة الشاعر في ضوء التناقض الحاد بين "الشعر النضالي "الملتزم بقضايا اجتماعية أو سياسية معينة، و"الشعر الخالص".

أما مقدمة "كرومويل" ( Cromwelle)1827 فقد حظيت باهتمام لم يحظ به العمل ذاته، إذ حولته إلى مجرد ذريعة يستند إليها حضور نص المقدمة. وقد ربطت مقدمة كرومويل بين الفن والتاريخ. وأكدت إمكانية تقهقر البشاعة والصلف الظاهرين اللذين ميزا الأزمنة الحديثة. ودعت إلى إقحام الطبيعة كلها في الفن. و إلى تجديد الأجناس الأدبية: التراجيديا والكوميديا خاصة. و ألحت على ضرورة توافق أو تصالح الشعر والحقيقة.

كما مثل العمل المسرحي الموسوم بـ"هرناني (Hernani) 1830، ومنذ عرضه الأول، بيانا يزدري الذوق والجمهور الكلاسيكيين. و تتالت بعده النصوص البيانية في صيغة، مقدمات مثل: مقدمة أوراق الخريف، ) feuilles d automne)1831، ومقدمة الأصوات الداخلية (les voix intérieures)ومقدمة الأشعة والظلال (les rayons et les ombres) 1840 وغيرها9.

ورغم الأهمية الخاصة التي ميزت مساهمة " فكتور هيجو" في صياغة مشروع الرومانسية الفرنسية

فانه لم ينفرد بهذا العمل، فقد كان إلى جانبه كل من "ألفريد دي موسيي"(de Musset) و"ألفونس دي فيني" (de Vigny) وغيرهما. وإن كانت مساهمتهما بدرجة أقل10.

 2 -1- 3 إن هدف النصوص البيانية التي أصدرتها الرومانسية الفرنسية (والإنجليزية والألمانية) هو هدم استعلاء الذوق الأرستقراطي (الكلاسيكي) وتأكيد حضور ذوق جديد، ورؤية جمالية جديدة، يختزلها الموقف من الموروث اليوناني والروماني القديم ـ الذي كان إلى حد ما مقدسا ـ وهو موقف ينبني على البحث عن المحجوب في ذلك القديم والعمل على إتمام نقائصه، بهدف القبض على "المطلق الأدبي" أو ما لم يقل وما لم يصل إليه نص بعد11.

كما شكّلت،هذه النصوص، أسا ونموذجا، لكمّ هائل من النصوص البيانية التي أطلقت باسم حساسيات وحركات فنية و أدبية،انسلخت عن الرومانسية أو عارضتها، وقد تفاقم تناسل هذه الحركات، حتى أصبح، مع بداية القرن العشرين، سمة جوهرية من سمات أدب وفن الحداثة، وملمحا مميزا من ملامح أزمنة الحداثة عموما.

2-2 بيانات ما بعد الرومانسية

يتعذّر تحديد الحركات الأدبية والفنية التي عرفتها أوروبا، والعالم الغربي عموما، تحديدا زمنيا دقيقا. ومن العسير ضبط حدود فاصلة بين معايير ومبادئ هذه الحركة أو تلك، أو تعيين مجال ولادة هذا التوجّه أو ذاك. فقد تكونت الرمزية، مثلا، في رحم الرومانسية، ثم أعلن بيان الشاعر جان مورياس المنشور بصحيفة" الفيجارو" الفرنسية بتاريخ 18 سبتمبر 1886 ميلاد هذه الحركة12. ومهدت الرمزية بدورها لظهور المستقبلية، وهي الحركة التي صاغ الشاعر الإيطالي فيليبو مارينتي (Marinetti) بيانها الرسمي، وقد صدر في صحيفة "الفيجارو" في شهر فيفري 131909. وللـرمزية والمستقبلية تأثيرات بارزة في السريالية، التي أعلن ظهورها أندري بروتون (Breton) عبر سلسلة البيانات(بيانات السريالية) التي أصدرها، تباعا، منذ سنة 141924. رغم أن إرهاصات السريالية تعود إلى الشاعر أبو لينار (Apollinaire) الذي أطلق مصطلح السريالية ليصف مسرحيته(Mamelles de Tirésias)  مؤكدا قطعها مع مبادئ الواقعية. وللسريالية صلات وثيقة بـالدادائية والتكعيبية و غيرهما من مدارس وحركات الفن الحديث.

والملاحظ، أن مبادئ هذه التوجّهات والحركات عامة ومرنة جدا، على نحو سمح بانتقالها أو هجرتها من مجال فني إلى آخر، من الشعر أو الرواية إلى الرسم والنحت والعمارة... ومن الرسم إلى المسرح والموسيقى أو الشعر...و لا يعنينا، هنا، استعراض تاريخ هذه الحركات أو تفصيل القول في الأسس التي قامت عليها أو بحث أساليبها وتقنياتها، بل حضورها الفاعل في المجال الثقافي الغربي ودلالات هذا الحضور*.

وقد تجلى وعي هذه الحركات بنفسها، أساسا، في إصدار النصوص البيانية، الوسيلة الرئيسية التي أعلنت بواسطتها عن تمايزها واختلافها عن السائد والمكرس، ورفضها، بل وازدرائها له، فقد عبرت، كل حركة من تلك الحركات، عن نيتها في تقويض ذلك السائد واستبداله ببرنامجها الخاص.« لذلك يبدو برنامج البيان جماليا وفلسفيا وسياسيا، في نفس الوقت»15. ولذلك يرد البيان، عادة، « في صيغة الخطاب التعليمي الشامل، مؤسس القناعات، وموزع "النقاء" و "المذهب"»16.

ويكشف هذا الخطاب، الرغبة الجامحة في الانفصال الجذري عن المعايير والقيم المستقرة والطموح إلى تأسيس مشروعية ذاتية، مستمد من الحضور ذاته. ذلك أن النص البياني يستمد مشروعيته من سياقه المشروط بنزوعه إلى الإبدال، ومن حضوره المشروط بالتفرد، ليحقق الفاعلية والتأثير المطلوبين، ثم يوسع هذه المشروعية لتشمل وجود الحركة التي أطلقته ( أدبيا واجتماعيا).

3 - النصوص البيانية بيان حداثة

لعله من الوجيه أن نعود، الآن، إلى مصطلح "الأزمنة الحديثة"، وتحديدا إلى الاستعمال الهيجلي لهذا المصطلح، فهيجل (Hegel) ـ حسب "هابر ماس"ـ هو أول فيلسوف طور على نحو واضح مفهوما محددا للحداثة، فقد كان استعماله لمصطلح "الأزمنة الجديدة" و"الأزمنة الحديثة" استعمالا خاصا، يتجاوز الدلالات الزمنية في استعمال المؤرخين17.

يقو ل هيجل: « ليس من الصعب ملاحظة أن زماننا هو زمن الولادة والانتقال إلى مرحلة جديدة،

فالروح انفصلت عما كان يسمى بالعالم إلى حد الآن، أي وجوده وتمثّله، وهي على وشك أن تبتلع كل هذهالأشياء، وهي في سياق الاشتغال على مفهومها»18. و يلاحظ "هابرماس" أن المبدأ المؤسس للأزمنة الحديثة، عند هيجل، هو مبدأ الذاتية (subjectivité) ويتضمن أربعة مفاهيم أساسية:

ـ الفردانية: ففي التفرد والتمايز والاستقلالية، تكمن مشروعية الادعاءات.

ـ الحق في النقد:إنتاجا وتقبلا، وقد وقعت الإشارة في بداية هذا الفصل لارتباطه بمبدأ المزاحمة الحرة، وما ترتب عنه من مراجعة مستمرة ومتابعة متواصلة لطرق ووسائل الإنتاج

ـ استقلالية الفعل.

ـ الفلسفة المثالية: فالفلسفة التي تمسك بالفكرة التي لها وعي بذاتها هي نتاج الأزمنة الحديثة19 .

والمفهوم الأخير، و يكثفه متصور" الروح المطلق" في الفلسفة الهيغلية، يزيح الشروط التي جعلت الحداثة تعي ذاتها، يغلق النسق الهيجلي.

وتكفي الآن مقارنة بسيطة بين منطق حضور النص البياني في الثقافة الغربية ودلالات هذا الحضور، والمفاهيم الهيجلية المحددة للأزمنة الحديثة، لنرى كم هي متطابقة :

ـ الاستناد إلى استقلالية تامة، مزعومة، بهدف الحصول على مشروعية تضمن رواج الادعاءات.

ـ البراغماتية.

ـ إدعاء الشمولية والصدور عن نزعة توسعية ونفس استبدادي.

ـ التّأَسُسُ على مفارقات تكوينية: الأزمات.

وبالاستناد إلى ما تقدم، يمكن القول، أن النصوص البيانية ليست سمة بارزة من سمات الحداثة أو نتيجة حتمية لها، بل هي صورتها منعكسة في ممارسة خطابية مخصوصة. ولا يعني الانعكاس هنا علاقة سلبية بين واقع الحداثة والنصوص البيانية التي تعكسه. فلهذه النصوص، وسواء كانت أدبية أو سياسية، تأثيرات فعلية قد تبلغ حد العصف بواقع الحداثة وتفضي إلى تجاوز حدوده. و لعل أكثر الأمثلة وضوحا وتعبيرا عن قدرة النص البياني على التأثير في الواقع عمليا، ما حققته الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي سابقا، بما هي محاولة لتنفيذ برنامج البيان الشيوعي.

لعل ما تقدم، يؤكد ارتباط البيان ـ باعتباره نمطا مخصوصا من أنماط الخطاب ـ بسياق تاريخي وثقافي، أبرز سماته التوجّه إلى الإبدال والتحويل. وأن هذا السياق الذي تحكم في تشكيل مقومات الخطاب البياني، هو أهم شروط حضوره، سواء تعلق بالواقع السياسي أو الثقافي، وسواء أمضي من قبل حزب سياسي أو حركة أدبية... فهل يتوفر هذا الشرط للحديث عن خطاب بياني عربي؟

الإجابة عن السؤال الأخير، وتفريعاته الممكنة، ثم اختبار تلك الإجابات، هي ما سيحاوله، هذا البحث، في أبوابه التالية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ.

1 - يشير عبد السلام المسدي إلى ان " الحداثة" عندنا مفهوم يوظف عند الاستخدام توظيفا يحمله المعنى و ضده، فيغدو مطية لمحامل دلالية متدرجة: يؤخذ مأخذ اللفظ المشتركـ. و يعامل معاملة المصطلح الفني. ثم يتخذ دالا على مقولة ذهنية. و لكنه يساق مساق الشعار لقصد دعائي أو في لبوس ثوري. و قد يستخدم استخدام الألفاظ الملبسة لغرض الإبهام. و يجتلب في سياق الترميز بقصد الإلغاز. و لا يندر أن يكون استعماله محمولا على الحكم المعياري عند القدح في ما ليس حداثة. ( النقد و الحداثة ، دار الطليعة ، بيروت، ط 1، ديسمبر1983)

2 - صبحي حديدي،الحديث، الحداثة، ما بعد الحداثة:ماذا في" الما بعد" من قبل و من بعد؟، الكرمل، ع 51، ربيع1997، ص52.

*- بحسب بعض المؤرخين، يمتد عصر النهضة الأوروبية من أوائل القرن الرابع عشر إلى أواخر القرن السادس عشر، وقد تعززت في هذه الفترة العناية بالمؤلفات الكلاسيكية تحقيقا وشرحا، مما دفع حركة الترجمة(ترجمت أثار يونانية كثيرة عن العربية )، وتزايد الاحترام للفنون والآداب. وكان النظر بشغف إلى الماضي الذي بلغ فيه الفكر الإنساني ذروته ـ حسب اعتقاد مثقفي النهضة ـ سببا بارزا من أسباب ظهور حركة ثقافية عرفت بـ"الإنسانية"، أساسها الأيمان بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع، ما يؤهله للتفكير بنفسه في شؤون حياته. وكانت "يوتوبيا "السير توماس مور(1516) احد أهم المؤلفات التي عبرت عن التوجّه الإنساني، وهي مخطط للجمهورية المثلى، التي تقتضي أقامتها ـ حسب مور" تعليم الرجال والنساء على حد السواء، والتسامح الديني. وهي الدعوات التي أطلقها رواد النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر، ومازال الجدل حول بعضها (تعليم المرأة ) لم يحسم بعد، في أقطار عربية كثيرة.

8- محمد بنيس:الشعر العربي الحديث، بنياته و إبدالاتها، الرومانسية العربية، ط2، 2001، دار توبقال، الدار البيضاء، ص20.

** يؤكد بنيس (الشعر العربي الحديث،الرومانسية العربية، ص ـ ص9ـ25) أن مركز الرومانسية الأوروبية هو ألمانيا، وتحديدا مدينة

ييناIéna  التي ظهرت بها مجموعة تحمل هذا الاسم، وان مركز النظرية الرومانسية هو مجلة الاتنيوم(Athénium)  التي أسستها الجماعة، والتي لم يعرفها الفرنسيون إلا بعد ترجمة نصوص المجلة وصدورها سنة 1978. 9- . (les manifestes). P 1390/1392Dictionnaire des littératures de la langue française J-P. de Beaumarchais et autres .bordas .paris.1984 française. (les manifestes) , idem -10 -

11 ـ محمد بنيس:الشعر العربي الحديث، بنياته و إبدالاتها، الرومانسية العربية، ص

12 ـ معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مادة الرمزية ص- ص181-182.

13 ـ ميشال سليمان،المستقبلية، جذور الحداثة الشعرية، كتابات معاصرة، ج4، ع 13، فيفري/مارس1992.

14 ـépreuve de la nomination dans le premier manifeste de surréalisme. P 47, littérature n° 39. Nicole Boulestreau,

1980

* ـ يقول ريموند وليامز، تعليقا على حضور هذه الحركات في المجال الثقافي والاجتماعي الأوروبي (طرائق الحداثة): «نستطيع أن نميز ثلاث مراحل رئيسية كانت تتطور بسرعة اواخر القرن التاسع عشر. في البدء كان ثمة جماعات مجددة تعمل على حماية ممارساتها داخل السيطرة المتنامية لسوق الفن، وضد لا مبالاة الأكاديميات الرسمية. و قد تطورت هذه إلى بديل، تمثل في تجمعات أكثر راديكالية من حيث التجديد، تعمل على توفير التسهيلات اللازمة لإنتاجهم وتوزيعه وإشاعته. وأخيرا، تحولت إلى تكوينات معارضة تماما، مصممة، ليس فقط على تنمية إنتاجها ، بل كذلك، مهاجمة أعدائها في المؤسسات الثقافية، ومن ورائهم كل النظام الاجتماعي الذي حاز أعدائهم السلطة فيه، وراحوا يمارسونها ويعيدون إنتاجها. ومن ثم، أصبح الدفاع عن لون خاص من الفن يعني ـ في المقام الأول ـ إدارة ذاتية أو استقلالا لنوع جديد من الفن، ثم هجوما ـ على نحو حاسم ـ باسم هذا الفن على نظام ثقافي واجتماعي شامل .»

15 ـ Abastado, ibid. p6

16ـ Jean-marie Gleize, manifestes¸préfaces¸sur quelques aspects du perspectif, Littérature N°39, P14

17 - محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ، ص125

18- محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ، ص 125.

19- نفسه، ص127.

ملاحظة: المقال مقتطف من بحث قدمته لنيل شهادة الدراسات المعمقة 2005 بعنوان : النصوص البيانية في الشعر العربي الحديث

هناك تعليقان (2):

  1. صديقي الواقعي والافتراضي
    لم احجب تعليقك من مدونتي عنوة فالأمر بكل بساطة يعود لعدم معرفتي بتقنيات نشر التعليق وبالعكس تماما اكون اسعد من شاشة الحاسوب عندما افتتح يومي بلاعب النرد
    لا تدع الوساوس تجري بحبرك
    واعلم يا صديقي ان الحب لا يتطلب في كل الاحوال تعبيرا مباشرا عنه او تصريحا مكتوبا

    ردحذف
  2. اسف...
    أردت فقط ان انبه على حقي في قراءة مختلفة...

    ردحذف