ثمة سيناريو يتكرر في أفلام نهاية العالم: تغزو الكائنات الفضائية الكوكب او تسيطر عليه الآلات او الموتى ـ الاحياء المصابون بعدوى فيروسية. عادة تعتمد هذه الأفلام سردا سينمائيا يقوم على الاسترجاع. حيث يصور المشهد الأول مجموعة من البشر المختبئين وسط الخراب. ويمثلون جيبا من جيوب المقاومة. ومن خلال ذكريات بعض الشخصيات. يتم سرد الاحداث التي سبقت الخراب العظيم الذي يعمّ الكوكب: يحصل خلل في النظام (او خيانة ما) ثمّ يدبّ الهلع وتنتشر الفوضى في كل مكان... ويعمّ الخراب.
في هذا السيناريو المتكرر الكثير من الحقيقة. فالأحداث واقعية. لقد حدثت فعلا. ولسنا في حاجة الى الانتظار مئات السنين لتتحقق النبوءة. لكن الغزاة ليسوا كائنات فضائية. «انه غزو البلهاء» على حد قول المفكر الإيطالي امبرتو ايكو. غزو صامت، دون ضجيج سياسي او صخب ثوري. ولكنه قوي وحاسم على النحو الذي يفتك به مرض خبيث بجسد منهك. «لقد تبوّأ التافهون السلطة». ولم تبق غير مجموعات صغيرة تمثل جيوب مقاومة وهي مجموعات من المنشقين المتمردين المؤمنين بجدوى المقاومة وضرورة تغيير العالم.
هذه حقيقة لا مراء فيها. والواقع المعيش وتفاصيل اليوميّ تقدم حججا لا حصر لها على صحتها.
في تونس ـ بعد الانتفاضةـ مثلا كان الهذيان العام هدّاما. لقد ساهمت وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ومئات التطبيقات على أجهزة الهواتف الجوالة في تكريس التفاهة نمط حياة. ليس لأن رأس المال الحريص على دعم عديمي الموهبة واشباه الشعراء والكتاب واشباه المسرحيين واشباه السياسيين وأشباه الصحفيين جعل هؤلاء المهرجين المدربين جيدا على القيام بالأدوار التي يطلب منهم القيام بها في كرنفال التفاهة الكوني يحظون بوضع مادي جيّد ويمثلون نموذجا يحتذى به فحسب، بل لان طبيعة الوسائط الجديدة وطرائق اشتغالها مناسبة لتحقيق هذه الغاية (اسباغ التفاهة على كل شيء). فهذه الوسائط أتاحت للهذيان( الضجيج إعادة تشكيل سنن تلقي الخطاب السياسي. فأُغرق الخطاب الثوري الحقيقي في خطابات ثورويّة، حتى ان مفارقات صارخة مثيرة للسخرية والازدراءـ كأن يرفع حزب يميني رجعي شعار الثورة لم تعد تثير الانتباه. ان جملة تافهة يتفوه بها سكران بائس تحظى بتقبليّة acceptabilité ورواج كبيرين في "السوق اللغوية" ـ أذا جاز لنا ان نستعير مصطلح بيار بورديو في هذا السياق ـ لا تحظى بهما لوائح سياسية أو دراسات اقتصادية تطلبت صياغتها أشهرا من البحث والدرس والمراجعة والتدقيق. ويتحول صاحب الجملة الركيكة الى نجم مشهور يُستقبل في البرامج التلفزية والاذاعية وتتحوّل حياته الخاصة الى مادة إعلامية تحظى بالمشاهدة في ظرف وجيز. وفي ظرف وجيز تنتهي الاثارة ويستدعى بائس اخر وحدث تافه اخر ليحتل صدارة المشهد. في حين يُغض الطرف عن جامعيين يعتصمون منذ سنوات من أجل حقهم في العمل وعن اضراب جوع وحشي تشنه عاملات المصانع او العاملات في القطاع الفلاحي اللواتي لا يصبحن مادة إعلامية الا إذا لقين حتفهنّ. ولأنّ «كل عمليات التواصل اللغوي هي أنواع من الأسواق (اللغوية) الصغرى.» فان التقبليّة التي يحظى بها الضجيج والهذيان وارتفاع قيمته رمزيا وواقعا ـ بما انه يحقق فعلا مكاسب مادية ورمزية للتافهين ـ يشير الى خلل قديم في النظام الرأسمالي أدى الى انحدار القيم الإنسانية وترذيل الحقائق الكبرى والحطّ من قيمة المعرفة (النظرية خاصة). هذا الخلل الذي أصبح أكثر خطورة على النوع البشري وليس على مجتمع من المجتمعات او ثقافة محددة في ظل التطور السريع للوسائط الحديثة. في حقبة ما بعد التلفزيون. التي أدت الى تغيير سنن تلقي الخطاب وتمثل الواقع.
لقد أصبح المتلقي ـ على نحو ما ـ عبثيا. لا يحمل ما يتلقاه من رسائل على محمل الجد. انه منخرط في هذيان لا يتوقف، مشغول بتصوير نفسه ولا يعبأ بما يدور حوله من احداث مصيرية. لقد أصبح يتمثّل الواقع ـ بما في من بؤس وفقر وعنف ـ على انه صور ومشاهد تعرض امامه ولا تحدث في الواقع.
لقد حصل انقلاب كلي في تمثّل الواقع: في 25 ديسمبر سنة 1895 عُرض ثاني أفلام الاخوين لوميير "وصول القطار الى السكة" في باريس. وفي قاعة العرض اثار مشهد قدوم القطار ـ وهو يتوجه الى الجمهور مباشرة ـ موجة من الهلع والرعب، حتى ان بعض المشاهدين ارتموا تحت الكراسي في حين تسمر البعض بسبب الذهول والفزع. ان جمهور الاخوين لوميير عاش لحظة عصيبة لان المرجع الذي يستند اليه هو الواقع واللبنات التي بنيت منها تركيبة الافراد الذهنية والنفسية هي تجاربهم الذاتية وما اختبروه في الحياة وليس ما شاهدوه من صور. وما يحصل اليوم بتأثير الوسائط الحديثة هو نقيض ما حصل قبل قرن اثناء عرض فيلم الاخوين لوميير. فالتركيبية الذهنية والنفسية لملايين البشر صارت مركبة في اغلبها من الصور. انها تختزل الواقع في صورة وتقطع الصلة بين الحدث وصوره ـ لقد جعل تدفق الصور كل ما يحصل في العالم من فظاعات امرا مألوفا. انها مجرد صور لذلك فانها ليست مدعاة للشعور بالاسى او التعاطف فما بالك بالانخراط في فعل المقاومة.
ان البؤس يملأ العالم: «أغلب أنظمة العالم البيئية مهددة، لشركات البترول اقتصاديات أشبه ما تكون بالمافيا، أقوى من أي دولة، الإنتاج الإعلامي مصمم للتلاعب بناء على أساس من التجارب العصبية، الاجناس الطبيعية تنقرض، هنالك قارة من البلاستيك المرمي تتشكل الان في المحيط الهادي والتوترات تثور بلا هوادة في مناطق الصراع الجيوسياسي حول العالم.» ـ هذا ما يراه مفكر كندي ينتمي الى العالم المتقدم ويتمتع بوضع مادي ورمزي متميز. فما الذي يمكن ان يختبره شخص يعيش في العالم العربي المحكوم باعراف القبيلة أو القبيلة في لبوسها الحداثي، في يتونس في ظل حكم شركة اخوانية متعدية الجنسيات يديرها الاستعمار ويمنح حق تسيير بعض فروعها المحلية لسماسرة هواة؟؟ في مدينة منجمية من مدن الجنوب التونسي ـ يكفي ان نذكر بان الخراء ـ بالمعنى الحقيقي ـ يتدفق في شوراعها بمجرد نزول المطر..؟؟؟؟؟
ورغم هذا القدر من الخراب فان أغلب البشر غارقون في فردانية مقيتة يزيدها الهوس الاستهلاكي والولع بالمشهدية ذات الطابع الايروتيكي فجاجة وبؤسا. ولعل قائمة حسابات الانستغرام الأكثر متابعة وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي تؤكد هذا التصور.
لقد نبّه الكثير من المفكرين ـ منذ سنوات ـ على هذا الانحدار غير المسبوق في تاريخ البشرية:
ففي حوار مع المفكر الإيطالي امبرتو ايكو في تسعينيات القرن العشرين ـ مثلا ـ يقول: «في الواقع، نحن نواجه خطر الكثرة، انها مأساة. فالأفراط في المعلومات يعادل الضجيج وقد فهمت السلطة السياسية في بلداننا ذلك جيدا. فلم تعد الرقابة تُمارس عبر الاقصاء والاحتجاز وانما عبر الافراط. اذ يكفي اليوم لتدمير خبر ارسال خبر خلفه تماما.»
وهذه الملاحظة أصبحت أكثر وجاهة بعد تطور الوسائط الحديثة ـ ما بعد التلفزيون ـ اذ ادى توسع شبكة الانترنات وسرعة الاتصال بها عبر الحواسيب والحواسيب اللوحية والهواتف الجوالة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي الى نشر الفوضى. فهذه الوسائط لا تكتفي بتدمير خبر مهم بإغراقه بأخبار أخرى بل بتذويب كل الاخبار في كرنفال تفاهة معولم وتغيير سنن التلقي. لقد اتاحت هذه الوسائط لعديمي المعرفة البتّ في أكثر القضايا حيوية ومصيريّة. ولا يكمن الخطر في الضجيج فحسب، بل في انحراف الفاعلين الحقيقين في هذا المجال او ذاك ـ في المجال الثقافي والسياسي خاصةـ بهدف إرضاء جيوش التفاهة او خضوعا لابتزازهم. وقد علقّ امبرتو ايكو ـ على هذا الانحدار الذوقي والقيمي في لقاء قصير جمعه بالصحفيين في 2015 قائلا: «انَّ أدوات وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حقّ الكلام لجيوش من الحمقى، ممن كانوا يتكلَّمون في الحانات فقط بعد تناول كأسٍ من النبيذ، من دون أن يتسبَّبوا بأيِّ ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً. أما الآن، فلهم الحقّ في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنَّه غزو البلهاء «.
يقترن الهذيان( الضجيج بانتصار التفاهة باعتبارها نظاما ونمط حضور في العالم. فليس ما نراه في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائله الا السطح الذي تتلاطم تحته أمواج التفاهة. وقد وصف الفيلسوف وعالم الاجتماع الكندي الان دونو هذا النظام في كتابه " نظام التفاهة" (la médiocratie). وصفا يبعث على الأسى والهلع في ذات الوقت.
يشير الان دونو الى ملاحظات ماركس الوجيهة حول تقسيم العمل الذي أدى الى اختزال العمل في قوة العمل ثم في تكلفته (بحيث يكون الاجر مساويا لما يحتاج اليه العمال لإنتاج قوة عملهم) وحوّل العمال الى أدوات" لا يعدو فيها العمل الدائم مدى الحياة ان يكون محض وسيلة لضمان وجودهم ذاته" مبينا أن هذا التقسيم « ساهم في ظهور السلطة التافهة mediocre power. فاجادة كل مهمة لجعلها نافعة لمنتج نهائي ـ لا أحد يعرف ما هو ـ هي مسألة قد ساهمت في ظهور " خبراء" فارغين يهرفون بخطب جيدة التوقيت»، بل ان هذا التقسيم قد جعل العمل مشروطا "بعقيدة امتثاليّة تخفي الكسل الفكري العميق". فهذه العقيدة تعني الخضوع للمعايير المكرسة في حقل ما (اقتصادي او ثقافي او سياسي ....) اوفي مجتمع ما، كما تعني اقصاء كل نفس نقدي. فتهمة الفوضوية جاهزة دائما لتسبغ المعقولية على الاقصاء ورفض الاختلاف سواء كان ذلك في إطار مؤسسة صناعية او حزب سياسي وبالتالي إعادة انتاج التفاهة. ان جوهر كفاءة الشخص التافه هو «القدرة على التعرف على شخص تافه اخر. معا، يدعم التافهون بعضهم بعضا. فيرفع كلّ منهم الاخر لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار.» حيث ينبغي على المرء «ان يكون قادرا على تشغيل تطبيقات الحاسب الالي وملء استمارة ما من دون شكوى، ترديد عبارات مثل "المعايير العليا لحوكمة الشركات" و" مقترح قيّم" مع توجيه التحية في الان ذاته للأشخاص المناسبين. ولكن ـ وهذا أمر مهم ـ لا ينبغي القيام بما هو أكثر من ذلك.».
دارت فصول كتاب نظام التفاهة حول المعرفة والخبرة والتجارة والتمويل والثقافة والحضارة وتطرقت تحت هذه العناوين الى مواضيع مختلفة وقد حرص الان دونو على توضيح مدى التدهور الذي بلغته هذه المجالات بسبب أجواء التفاهة ومعاييرها التي أدت الى تغيير قواعد اللعبة ( الصراع بين الفاعلين في هذه الحقول المختلفة. حيث تراجعت الكفاءة والقدرة على الابتكار والابداع نهائيا لصالح التواطئ والتآمر والتملق. وقد افرز هذا النظام «خمس شخصيات مفاهيمية تظهر لتجسد ردود الفعل المحتملة لهيمنة النظام الذي يتطلب التفاهة» وهي الكسير الذي يرفض النظام ويعبر على ذلك بالانسحاب. والشخصية التافهة بطبيعتها «وهذا الشخص التعس يصدق ما يروى له من أكاذيب. انه شخص طيب يحبه الايديولوجيون وهو يعتنق نظرياتهم لأنها أصبحت جزءا من بنيته الذاتية، كل ما ينتج عن ممارسات زماننا تبدو له طبيعية جدا.» أما الشخصية الثالثة فهي شخصية التافه المتعصب، وهو «محنة حقيقية، يطلب المزيد دائما. انه شخص يعرف جميع الحيل. انه يستيقظ من نومه وهو يتساءل عن الحيلة المشبوهة التي يمكنه ابتكارها لنيل الحظوة لدى سلطة ما.»
الشخصية الرابعة هي شخصية التافه رغما عنه، ذلك الذي « ينفّذ عمله تحت الضغط، فهو ينفّذه مع شعور بالعار أيضا، وادراكا تاما لابتذال الشر الشر الذي يمثله»
والشخصية الأخيرة يمثلها «عدد صغير من الرعناء الطائشين (...) هؤلاء هم الأشخاص الذين يندفعون الى الامام، منددين بأعمال مؤسسات السلطة، التي تكون أجرتها الوحيدة هي شرف عدم المشاركة فيها» وهؤلاء هم اخر جيوب المقاومة، الذين لا يفقدون الامل حين يعم الخراب العالم.
ان وصف نظام التفاهة قاد الان دونو الى استفهام يحقق وظيفة النفي:« ما الذي أستطيع عمله، انا الشيء الصغير، النكرة السجين بداخل فرديتي العميقة، المجبر على أكل البيتزا المجمّدة بداخل شقتي المكونة من نصف سرداب، والذي أعيش في محيط من معدل البطالة المرتفع، والايجارات العالية، وحشية الشرطة، وجميع المبالغ التي أدين بها للأخرين؟» وهذا السؤال ـ ينفي كل احتمال للمقاومة. انه يؤكد انه لم يعد بوسعنا فعل أي شيء. ورغم أن دونو يختم عمله بالدعوة للمقاومة: « كن راديكاليا» الا ان ما يرسخ في الذهن بعد قراءة الكتاب هو ذلك الإحساس المفرط بالاسى والهلع والعجز في ان معا.
ولكن ما العمل؟ ما الذي قد تفعله مجموعة صغيرة من البشر المختبئين وسط الخراب؟ ما الذي يمكن ان تفعله مجموعة من" الرعناء الطائشين" الذين يرفضون الاستسلام؟؟ كيف تحول جيوب المقاومة مناوشاتها الصغيرة مع التافهين ـ والتي تبدو فعلا دفاعيا يهدف الى البقاء فحسب ـ الى فعل مقاومة انساني شامل وعارم يدحر التفاهة ويعيد اعلاء القيم الإنسانية الحقيقة ويحوّل حيواتنا من "محاولات للنجاة والبقاء " والتي ازدادت عسرا وصعوبة في بداية هذا القرن. الى حياة حقيقية، الى " حياة بحريّة"؟
وازعم ان الإجابة بسيطة: عمل سياسي. لكن كل عمل سياسي سيكون قاصرا ما لم يتضمن التفكير في هذه الوسائط الحديثة باعتبارها نواقل للمعرفة قادرة على هدم البنى والمؤسسات القديمة لا مجرد وسائل للتواصل والتأثير والتعبئة فحسب ـ بان التفكير في الحواسيب والحواسيب اللوحية والهواتف الجوالة المتصلة بشكبة الانترنيت ومنصات ومواقع التواصل الاجتماعي يجب ان يتمّ مقارنة بالمطبعة مثلا. ويكفي ان نشير بايجاز الى ان ظهور المطبعة قد سرع من انهيار سلطة الاقطاع. فبفضل توفر نسخ مطبوعة رخيصة بدل المخطوطات الثمينة ـ المحتكرة بأيدي قلة من النبلاء واعوانهم كانت حركة الإصلاح الديني التي حررت المسيحي من سلطة الكهنة وتحولت اللهجات العامية الى لغات وطنية بعد ان كانت اللاتينية لغة الفن والعلم والدين فانهارت سلطة الكنيسة. وظهرت الدولة العلمانية.
ان المعركة يجب ان تشن بنفس الأسلحة. فالعصي التي كنا نتكأ عليهاـ أغلب الوقت ـ في انتظار المعركة لن تصمد في وجه طلقات التفاهة التي تنهمر من كل اتجاه.